![]() |
د محمد السيد محمد عبدالعال عابد مدرس الفقه المساعد بجامعة الأزهر الشريف |
الصوم عبادة عظيمة فرضها الله تعالى لتحقيق مقاصد روحية وأخلاقية سامية، إذ لا يقتصر أثره على الامتناع عن الطعام والشراب، بل يمتد ليشمل تهذيب النفس، وتزكية القلب، وتقويم السلوك، مما يجعله وسيلة فعالة للارتقاء بالإنسان أخلاقيًا وروحيًا.
والصوم من أعظم الطاعات التي يُتقرب بها إلى الله سبحانه، ويثاب المؤمن عليه ثوابًا لا حدود له، وبه تُغفر الذنوب، ويُباعد بين وجه الصائم والنار، ويُستحق به دخول الجنة من باب خاص أُعد للصائمين، ويفرح به العبد عند لقاء ربه.
والصوم ركن من أركان الإسلام، فرضه الله لتحقيق التقوى، كما قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به.
وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"إن في الجنة بابًا يُقال له الريَّان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم. يُقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق، فلم يدخل منه أحد" (متفق عليه).
أثر الصوم في تهذيب النفوس.
1- مدرسة أخلاقية متكاملة:
الصوم مدرسة إيمانية وتربوية عظيمة، يتدرب فيها المؤمن على مجاهدة النفس ومقاومة الأهواء والشهوات، كما يُعلِّمه الصبر والتحمل، ويغرس فيه روح الانضباط والنظام، وهو يُنمي في الإنسان عاطفة الرحمة والتسامح، ويعمِّق مشاعر الأخوة والتضامن والتعاون بين المسلمين، فيكون بذلك دورة تدريبية متكاملة ترتقي بالروح وتُهذب السلوك.
2- تنمية الإرادة والصبر:
يساعد الصوم المسلم على ضبط النفس والتحكم في رغباته وشهواته، مما يقوي إرادته ويعزز قدرته على مقاومة الإغراءات، كما يُنمي فيه الصبر وقوة التحمل، إذ يدرّبه على احتمال الجوع والعطش، ويعوّده على الابتعاد عن الغضب والانفعال، مما يجعله أكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة بثبات واتزان، مما ينعكس إيجابًا على سلوكه وأخلاقه.
والصوم يُربي المسلم على الصبر بجميع أنواعه: الصبر على الطاعة، حيث يمتثل أمر الله في الامتناع عن المفطرات، والصبر عن المعصية، إذ يضبط جوارحه عن المحرمات، والصبر على الأقدار، بتحمل الجوع والعطش. كما يعوّد النفس على التحمل وكبح الرغبات، مما يقوي إرادته.
وهذا الصبر المكتسب في رمضان ينعكس على حياته كلها، فيزيده ثباتًا في مواجهة الشدائد.
3- التحلي بالأخلاق:
يحث الصوم المسلم على التحلي بالأخلاق الفاضلة والابتعاد عن السلوكيات السيئة، فقد أرشد النبي ﷺ الصائم إلى التزام أدب الإسلام، فقال:
"إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم" (متفق عليه).
وهذا يُربي المسلم على الحلم والتسامح وكظم الغيظ، مما يعزز أخلاقه وسلوكه في تعامله مع الآخرين.
4- الشعور بالآخرين:
ومن مقاصد الصيام أيضا تحقيق التكافل بين أفراد المجتمع، حيث يشعر الغني بجوع الفقير، فيرق قلبه ويزداد سخاؤه، كما يدفع المسلمين للتصدق وإطعام المحتاجين ابتغاءً لمرضاة الله، ويعزز روح الأخوة والتعاون بين أفراد المجتمع من خلال تفقد بعضهم لبعض، وتظهر معاني الرحمة والمواساة، فتتوثق عرى المحبة بينهم.
وهكذا يصبح المجتمع أكثر ترابطًا وتلاحمًا، حيث يستشعر الغني حال الفقير، مما يدفعه للعطاء والإحسان. ولذلك شُرعت زكاة الفطر في نهاية رمضان، قال النبي ﷺ:
"أفضل الصدقة صدقة في رمضان" (رواه الترمذي).
فالصائم يستشعر معاناة الفقراء، فيرق قلبه لهم، مما يقوي الروابط الاجتماعية وينمي روح العطاء في المجتمع.
5- تحقيق الإخلاص وتنقية القلب:
فالصوم عبادة بين العبد وربه، لا يطّلع عليها أحد، مما يجعله تدريبًا عمليًا على الإخلاص، وتنقية القلب من الرياء، وتعويد النفس على العمل الصالح لوجه الله تعالى.
وهذا مقصد عظيم من مقاصد الصيام، فهو ينقي القلب من الغفلة، ويقوي الإخلاص، حيث يكون خالصًا بين العبد وربه، قال النبي ﷺ:
"كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به" (متفق عليه).
وهو يطهّر النفس من الشهوات، ويهذب الأخلاق، ويُعين على التحلي بالصبر. كما يغرس في القلب التقوى والخشوع، مما يقوي صلته بالله، ويُضعف تأثير الشهوات والشبهات، فيجعله أكثر طهارة وصفاء.
والخلاصة
الصوم ليس مجرد عبادة شكلية، بل هو وسيلة فعالة لإصلاح النفس وتقويمها، حيث يجمع بين تزكية الروح، وتهذيب الأخلاق، وتقوية الإرادة، وتعزيز التكافل الاجتماعي. فبه يرتقي المسلم في مدارج الكمال الإيماني والأخلاقي، مما يجعله أقرب إلى الله وأفضل في تعامله مع الآخرين.
تعليقات
إرسال تعليق