![]() |
الكاتب والسياسي سيد الاسيوطي |
لم يعد الصراع في منطقة الشرق الأوسط مجرد قضية سياسية، بل أصبح معركة وجود إنساني. فبينما يُرفع شعار "معاداة السامية" لحماية إسرائيل من أي مساءلة، يكشف الواقع عن "معاداة الإنسانية" عبر صمت المجتمع الدولي على الجرائم اليومية بحق الفلسطينيين والعرب.
ازدواجية المعايير باتت واضحة؛ فإذا كانت الإنسانية هي المعيار الجامع، فلماذا تتحرك المؤسسات الدولية فورًا عندما يُتعلق الأمر بأمن إسرائيل، بينما تغض الطرف عن آلاف الضحايا المدنيين في غزة ولبنان وسوريا؟ إن مجلس الأمن والأمم المتحدة أصبحا عاجزين، وتحولت منظمات حقوق الإنسان إلى أدوات سياسية بيد القوى الكبرى، تستخدمها كما تشاء وقتما تشاء، في تحد صارخ للمجتمع الدولي الذي أثبت ضعفه.
الأمثلة صارخة؛ فحينما قصفت إسرائيل سوريا ولبنان وارتكبت أبشع الجرائم والمجازر في غزة، اكتفى العالم بالصمت أو بإصدار بيانات وتصريحات عقيمة على استحياء.
لكن عندما كان الأمر يتعلق بأمن إسرائيل، مثل الرد الإيراني بهجوم صاروخي كاسح، تحركت القوى الغربية فورًا وعلي عجل لفرض وقف إطلاق النار خلال أسبوع واحد فقط! الهدف لم يكن حماية السلام كما يدعي البعض، بل حماية الكيان الصهيوني من شبح الهزيمة.
الأرقام وحدها تفضح حجم الكارثة الإنسانية والجرائم البشعة للاحتلال. وفق تقارير منظمات دولية، ففي العدوان الأخير على غزة تجاوزت نسبة النساء والأطفال من الضحايا 70%. أما لبنان، فمنذ حرب 2006 وحتى اليوم، سقط آلاف المدنيين دون محاسبة. وحتى عندما أدانت المحكمة الجنائية الدولية قادة إسرائيل، واجهت المحكمة نفسها عقوبات أمريكية، في مشهد يكشف سيادة قانون الغاب على القانون الدولي.
الخطر الحقيقي إذن ليس "معاداة السامية"، بل معاداة الإنسانية. فحين يتم استغلال حقوق الإنسان كشعار انتقائي، ويُمنح الاحتلال الصهيوني حصانة مطلقة، فإننا أمام جريمة أخلاقية وسياسية بحق البشرية جمعاء. المطلوب اليوم هو إصلاح جذري للمنظومة الدولية، ودعم استقلالية المحكمة الجنائية الدولية، وحشد الرأي العام العالمي لكشف زيف الشعارات الغربية عن العدالة وحقوق الإنسان وإسقاط القناع عنها.
وسط هذه التحديات، يظهر وبقوة الدور المصري والعربي كعامل أساسي لبناء التوازنات. حيث حافظت مصر بصبر وحكمة على استقرار المنطقة، ودفعت باتجاه التهدئة ووقف إطلاق النار، مدركة أن أي مواجهة واسعة لن تحرق إسرائيل وحدها، بل سوف تكون المنطقة في خطر محقق يهدد مستقبلها بالكامل.
ولكن للصبر حدود، فلقد أصبحت المنطقة اليوم على شفى حفرة حرب شاملة، والغضب الشعبي المتصاعد يهدد الاستقرار السياسي في العالم بأسره. وعلى المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته كاملة ويدعم مصر والدول العربية الداعمة للاستقرار لوقف الحرب في غزة فورًا، فلن يكون هناك بديل عن الحكمة والصبر.
كما أن سياسات ترامب المتهورة، الممزوجة بجنون العظمة، قد تهدد أمن الولايات المتحدة نفسها أو تحرق العالم بأسره إذا استمرت دون مراجعة أو تغيير.
وبالإضافة إلى ضبط التوتر على الأرض، أصبح إصلاح المنظومة الأممية ضرورة ملحة.
فلابد من إلغاء أو تعطيل حق الفيتو الذي أصبح المتسبب الرئيسي في ضياع العدالة ونشر الفوضى الخلاقة في العالم، إلى جانب توسيع تمثيل الدول النامية والدول المهمة إقليميًا مثل دول أمريكا اللاتينية وقارة إفريقيا في مجلس الأمن بشكل عادل، وتفعيل دور الجمعية العامة والمحكمة الجنائية الدولية، وإشراك المنظمات الإقليمية بشكل فاعل. هذه الإصلاحات تضمن أن القرارات الدولية تعكس العدالة وتخدم الإنسانية، بدلًا من أن تكون أسيرة المصالح الكبرى. كما أن تعزيز استقلالية المحكمة الجنائية الدولية يمكنها من محاسبة أي مجرم حرب دون ضغوط سياسية، ليعود القانون الدولي إلى مكانته الحقيقية.
إن الإنسانية اليوم أمام اختبار تاريخي صعب؛ إما أن يواصل العالم سياسة التواطؤ وحماية الاحتلال وحكومته المتطرفة والمجرمة، أو أن يسلك طريقًا جديدًا نحو عدالة إنسانية حقيقية تعيد للضمير العالمي مكانته وللإنسان قيمته. الحقيقة الواضحة أن الخطر الأكبر الذي يهدد البشرية ليس معاداة السامية كما يدعي البعض وقت الحاجة، بل معاداة الإنسانية التي تمارسها القوى الكبرى بكل بجاحة لحماية الكيان الصهيوني ونشر الفوضى في المنطقة على حساب دماء الأبرياء وحقوق الشعوب.
المسؤولية الكبرى تقع اليوم على عاتق المجتمع الدولي لتوفير الحماية للمدنيين، ودعم جهود مصر والدول العربية للحفاظ على الاستقرار، ومنع الانزلاق إلى حرب مدمرة قد تدمر المنطقة بأسرها. وأي تقاعس أو صمت لن يضر إلا بالكيان الإسرائيلي وداعميه مهما كانت قوتهم، بينما يؤكد الصبر العربي والحكمة المصرية أن العدالة والأمن، وأولها الوقف الفوري لحرب الإبادة في غزة والضفة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، هما الخيار الوحيد لاستقرار المنطقة والعالم أجمع.
تعليقات
إرسال تعليق