القائمة الرئيسية

الصفحات

(التنمر آفه تُهدِّدُ القِيَمَ الإنسانيَّةَ والمُجتمعيَّةَ) بقلم د/ محمد السيد محمد عبدالعال

 د.محمد السيد محمد عبدالعال المدرس المساعد بجامعة الأزهر  

في عالمٍ يَسُودُهُ التقدُّمُ والتطوُّرُ، يَبْقَى التنمُّرُ جُرْحًا عَمِيقًا في جَسَدِ الإنسانيَّةِ، يَتْرُكُ أَثَرَهُ في النُّفُوسِ أَكْثَرَ مِن أَثَرِهِ على الأجسادِ.


هُوَ لَيْسَ مُجَرَّدَ كَلِمَاتٍ قَاسِيَةٍ أو أَفْعَالٍ مُؤْذِيَةٍ، بَلْ هُوَ ظُلْمٌ خَفِيٌّ يُمَارَسُ في صَمْتٍ، يُحَطِّمُ الثِّقَةَ، وَيَزْرَعُ الخَوْفَ، وَيَقْتُلُ الأَمَلَ.

كَمْ مِن شَخْصٍ خَسِرَ بَسْمَتَهُ بِسَبَبِ سُخْرِيَةِ الآخَرِينَ؟ وَكَمْ مِن قَلْبٍ تَحَطَّمَ تَحْتَ وَطْأَةِ الكَلِمَاتِ الجَارِحَةِ؟

إِنَّ الإسلامَ، الَّذِي جَعَلَ الكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ صَدَقَةً، حَارَبَ التنمُّرَ بِكَافَّةِ أَشْكَالِهِ وَصُوَرِهِ، وَرَفَعَ قِيمَةَ الإِنْسَانِ فَوْقَ كُلِّ اعْتِدَاءٍ أَوْ تَحْقِيرٍ.

فَهَلْ حَانَ الوَقْتُ لِنَقِفَ جَمِيعًا ضِدَّ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ وَنُعِيدَ لِمُجْتَمَعِنَا قِيَمَ الرَّحْمَةِ وَالاحْتِرَامِ وَالتَّسَامُحِ؟

ومن الآثار السلبية للتنمر :

– تدني الثقة بالنفس:

قَدْ يَظُنُّ البَعْضُ أَنَّ كَلِمَةً جَارِحَةً أَوْ سُخْرِيَةً عَابِرَةً لَا تَتْرُكُ أَثَرًا، لَكِنَّ الحَقِيقَةَ أَنَّ التنمُّرَ قَادِرٌ عَلَى تَدْمِيرِ ثِقَةِ الإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ، وَزَرْعِ الخَوْفِ في دَاخِلِهِ، بَلْ وَقَدْ يَدْفَعُهُ إِلَى العُزْلَةِ أَوْ حَتَّى الاكْتِئَابِ.

– تدمير العلاقات الاجتماعية:

إِنَّ التنمُّرَ أَصْبَحَ سُلُوكًا مُدَمِّرًا يُهَدِّدُ العَلَاقَاتِ الإِنْسَانِيَّةَ، فِي المَدَارِسِ، وَفِي بِيئَاتِ العَمَلِ، وَحَتَّى عَلَى مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ، أَصْبَحَ التنمُّرُ ظَاهِرَةً يَوْمِيَّةً يَتَعَرَّضُ لَهَا الكَثِيرُونَ دُونَ أَنْ يَجِدُوا مَنْ يُدَافِعُ عَنْهُمْ، فَلَقَدْ أَصْبَحَتْ وَسَائِلُ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ سَاحَةً مَفْتُوحَةً لِلتنمُّرِ، حَيْثُ يَخْتَفِي وَرَاءَ الشَّاشَاتِ مَنْ يَسْعَى إِلَى تَقْلِيلِ قِيمَةِ الآخَرِينَ مِنْ خِلَالِ كَلِمَاتٍ جَارِحَةٍ أَوْ تَهَكُّمَاتٍ مُؤْذِيَةٍ، فِي حِينِ أَنَّ الشَّخْصَ المُتَعَرِّضَ لِهَذَا الأَذَى لَا يَجِدُ مَأْوًى يَحْمِيهِ أَوْ يُحَسِّنُ مِنْ وَضْعِهِ.

– العدوانية على الآخرين:

ويُعَدُّ التنمُّرُ مِنْ أَعْمَقِ مَظَاهِرِ العُدْوَانِيَّةِ النَّفْسِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تُمَزِّقُ نَسِيجَ العَلَاقَاتِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَيُعَرَّفُ كَإِسَاءَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ تُمارَسُ عَلَى الأَفْرَادِ سَوَاءٌ بِالكَلَامِ أَوْ الفِعْلِ أَوْ السُّخْرِيَةِ بِهَدَفِ إِضْعَافِهِمْ نَفْسِيًّا وَجَسَدِيًّا.

– الخذلان وانعدام الثقة:

لَكِنْ مَا يَجْهَلُهُ الكَثِيرُونَ أَنَّ هَذِهِ الظَّاهِرَةَ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى لَحَظَاتِ الإِهَانَةِ العَابِرَةِ، بَلْ تَغْرِسُ جُرُوحًا عَمِيقَةً فِي النَّفْسِ قَدْ تُؤَثِّرُ فِي الشَّخْصِ مَدَى حَيَاتِهِ، خَاصَّةً إِذَا كَانَتْ تَأْتِي مِنْ أُنَاسٍ يُفْتَرَضُ بِهِمْ أَنْ يَكُونُوا دَاعِمًا وَمَلَاذًا.

إِنَّ الإسلامَ سَبَقَ كُلَّ القَوَانِينِ فِي رَفْضِ الإِسَاءَةِ لِلآخَرِينَ، وَحَذَّرَ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَالهَمْزِ وَاللَّمْزِ، لِأَنَّ الكَلِمَةَ قَدْ تَكُونُ سَهْمًا يَجْرَحُ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ سِلَاحٍ.

فَهَلْ نَتَجَاهَلُ هَذِهِ المُشْكِلَةَ، أَمْ نَتَحَمَّلُ مَسْؤُولِيَّتَنَا فِي التَّصَدِّي لَهَا وَبِنَاءِ مُجْتَمَعٍ أَكْثَرَ احْتِرَامًا وَإِنْسَانِيَّةً؟

إِنَّ التَّصَدِّي لِلتنمُّرِ لَيْسَ فَقَطْ مِنْ خِلَالِ مُعَاقَبَةِ المُتَنَمِّرِينَ، وَلَكِنْ أَيْضًا مِنْ خِلَالِ تَبَنِّي ثَقَافَةِ الاحْتِرَامِ وَالتَّضَامُنِ بَيْنَ أَفْرَادِ المُجْتَمَعِ، وَحِمَايَةِ ضُعَفَائِهِ.

إِذْ إِنَّ تَكْرَارَ مِثْلِ هَذِهِ المُمارَسَاتِ يُؤَدِّي إِلَى تَفَشِّي العُدْوَانِيَّةِ، وَتَشْوِيهِ مَلَامِحِ الإِنْسَانِيَّةِ.

فَهَلْ حَانَ الوَقْتُ لِكَيْ نَتَأَمَّلَ فِي قِيمَةِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ خِلَالِ عَيْنَيْهِ، وَنَعْمَلَ مَعًا نَحْوَ بِنَاءِ بِيئَةٍ خَالِيَةٍ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ مِنَ التنمُّرِ؟

إِنَّ التنمُّرَ ظَاهِرَةٌ سَلْبِيَّةٌ تَتَنَافَى مَعَ القِيَمِ الإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الرَّحْمَةِ، وَالعَدْلِ، وَالاحْتِرَامِ بَيْنَ النَّاسِ، فالإِسْلَامُ حَرَّمَ الاعْتِدَاءَ عَلَى الآخَرِينَ بِأَيِّ شَكْلٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِالكَلَامِ أَوِ الفِعْلِ أَوِ الإِيذَاءِ النَّفْسِيِّ، وَاعْتَبَرَهُ نَوْعًا مِنَ الظُّلْمِ الَّذِي يُعَاقِبُ عَلَيْهِ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

فَلَقَدْ حَرَّمَ الإسلامُ التَّنَمُّرَ بِكُلِّ صُوَرِهِ وَأَشْكَالِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ( سورة الحجرات: 11).

فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَحْرُمُ السُّخْرِيَةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِالنَّاسِ، وَهِيَ صُورَةٌ وَاضِحَةٌ مِنْ صُوَرِ التَّنَمُّرِ.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» " صحيح مسلم " فالحديث ينهى عن تحقير الآخرين، وهو جوهر التنمر.

فَالإِنْسَانُ فِي الإِسْلَامِ مَحْفُوظٌ كَرَامَتُهُ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ دِينِهِ أَوْ لَوْنِهِ أَوْ حَالَتِهِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، فَالْكَرَامَةُ الإِنْسَانِيَّةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَفْهُومٍ اجْتِمَاعِيٍّ أَوْ فَلْسَفِيٍّ، بَلْ هِيَ حَقٌّ فِطْرِيٌّ مَنَحَهُ اللَّٰهُ تَعَالَى لِكُلِّ إِنْسَانٍ.

فَحِفْظُ كَرَامَةِ الإِنْسَانِ يَعُدُّ مِنَ المُبَادِئِ الْأَسَاسِيَّةِ الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا شَرِيعَةُ اللَّٰهِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْبَشَرِ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ جِنْسِهِمْ، دِينِهِمْ، أَوْ خَلْفِيَّتِهِمْ الثَّقَافِيَّةِ.

وَالخُلَاصَةُ: فَإِنَّ التَّنَمُّرَ سَوَاءً كَانَ لَفْظِيًّا أَوْ جَسَدِيًّا، يَعُدُّ مُحَرَّمًا فِي الإِسْلَامِ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْمَعَاصِي، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَالظُّلْمُ بِمَعْنَاهُ الْعَامِّ يَشْمَلُ أَيَّ اعْتِدَاءٍ عَلَى حُقُوقِ الشَّخْصِ، بِمَا فِيهِ كَرَامَتُهُ النَّفْسِيَّةُ وَالْجَسَدِيَّةُ، وَالظُّلْمُ مُحَرَّمٌ فِي الإِسْلَامِ، قَالَ تَعَالَى:(وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)( سورة البقرة:190).

وَدِينُنَا الْحَنِيفُ يُشَدِّدُ عَلَى ضَرُورَةِ حِمَايَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ الْأَذَى النَّفْسِيِّ، وَيَحُثُّ عَلَى أَنْ يَحْتَرِمَ كُلُّ فَرْدٍ كَرَامَةَ الْآخَرِينَ.

تعليقات

التنقل السريع