![]() |
أ. إيمان قنديل أخصائية إرشاد علم النفس التربوي |
كان طفلًا في السابعة، يضحك ببراءة وهو يركض نحو باب البيت. لكن تلك الضحكة لم تعد كما كانت… منذ لمسة خبيثة في أحد فصول المدرسة.
لم يكن يعرف ما حدث بالضبط، لكنه خرج مختلفًا… صامتًا، خائفًا، يبلل فراشه، وينظر للأرض كثيرًا.
لم يتكلم… ولم تفهم أمه. صرخت فيه يومًا: “مالك بقت غريب كده؟!”
ولم تعلم أن جزءًا منه قد تحطّم، بصمت… وأنه صار يعيش في جسده كغريب.
كم من الأطفال حولنا يعيشون هذا السيناريو؟ كم ضحكة انطفأت، وكم براءة انتهكت، لأننا كأهل كنا مشغولين… أو خائفين من الكلام… أو نظن أن أولادنا “صغيرين على ده”؟
هذه ليست قصة فردية، بل وباء صامت.
وبينما يتحدث العالم عن الحروب والمجاعات، هناك جريمة خفية تحدث كل يوم في بيوت ومدارس وحتى مساجد: التحرش، والجهل، وكتم المشاعر، والصمت القاتل.
سؤال واحد فقط…
هل سننتظر حتى ينكسر قلب ابننا أو ابنتنا، ثم نبدأ نصرخ، ونبكي، ونلوم الزمان؟
أم نبدأ من الآن… نعلّم، نحتوي، نحمي، ونعطيهم حقهم في معرفة أجسادهم، مشاعرهم، وحدودهم؟
هذا المقال ليس مجرد كلمات… إنه صرخة وعي، وخارطة نجاة لكل أب وأم، ولكل مجتمع يريد أن يربي جيلًا سويًا، آمنًا، شجاعًا، لا يخاف أن يقول: “جسمي مش مباح… وكرامتي مش للعب”.
قبل ما يضيع العمر والطفل ينكسر: التربية الجنسية الواقعية وحماية أولادنا من التحرش والمشاعر المبكرة
مقدمة:
في زمن مفتوح على كل شيء – شاشات، موبايلات، مدارس، حتى بيوت الأهل – أصبح من المستحيل إننا نغضّ نظرنا عن حاجة اسمها “التربية الجنسية”. ومش المقصود هنا معلومات جسدية، بل المقصود: حماية الطفل من الخطر، بناء شخصية قوية، وفهم ما يدور بداخله بدون رعب أو إنكار.
التحرش لم يعد نادرًا. ممكن يحصل من قريب، من جار، من مدرس، من طفل تاني. والمشاعر الجنسية أو العاطفية المبكرة أصبحت شائعة بسبب المحتوى المنتشر والفراغ العاطفي والخلل في التوعية.
إحنا كأمهات وآباء ومربين، لازم نواجه ده بدل ما نهرب منه. نعلّم بدل ما نزعق، نحتوي بدل ما نكسر، ونبني جيل سوي، واعي، يعرف يحمي نفسه.
أولًا: إزاي نبدأ التربية الجنسية من الصفر؟ ومتى؟
من سن 3 سنوات نبدأ، نعم من 3 سنين، لأن:
الطفل من صغره عنده فضول.
المجتمع من حوله بيقدم محتوى غير مناسب.
جسمه بيتكوّن إدراكه له، ولازم نكون إحنا المرجع الأول.
من 3 – 5 سنوات:
نعلّمه أسماء أعضائه بشكل غير محرج: “المنطقة الخاصة”، “الصدر”، “المؤخرة”.
نرسّخ عنده: جسمي ملكي، محدش يلمسه.
نعلمه يصرّخ ويهرب ويقول: “لا”، ويحكي لماما وبابا لو أي حد ضايقه.
نستخدم القصص، الدُمى، والرسوم المبسطة.
مثال واقعي:
طفل عمره 4 سنوات قال لأمه إن “عمو الجار” ضحك عليه وطلب يشوف بطنه وتحت ملابسه. الأم لم تتردد، قالت له: “شكراً إنك قلتلي، محدش له حق يلمسك”، وذهبت فورًا لوالد الطفل، وتم قطع العلاقة بهذا الجار، مع تعليمه بأسلوب لطيف أن “أي حد يطلب يشوف جسمك هو شخص غير آمن”.
من 6 – 9 سنوات:
نكمل التوعية ونشرح أن فيه ناس ممكن تتصرف غلط، حتى لو بنحبهم.
نعرّفه حدود التعامل: لا حضن إجباري، لا أسرار عن الجسم.
نربطه بالسلوك الإسلامي: “الحياء شعبة من الإيمان”.
من 10 سنوات فما فوق:
نبدأ نوضح التغيرات الجسدية (البلوغ).
نتكلم عن الفرق بين الإعجاب الطبيعي، والمشاعر اللي مش وقته.
نغرس مفاهيم: العفة، ضبط النفس، الحلال والحرام، الجهاد الحقيقي مش بس في المعارك، لكن كمان في مقاومة النفس.
ثانيًا: كيف نعلّم الطفل يحمي نفسه بطريقة واقعية وسهلة؟
1. قاعدة “المناطق الخاصة”:
أي منطقة يغطيها المايوه الداخلي = لا تُلمس ولا تُرى.
نقولها بوضوح وهدوء، ونكررها كثيرًا.
2. قصة يومية قصيرة عن الحماية:
نحكي حكاية بطلها طفل شجاع، رفض لمسة غريبة، وقال لمامته، فحمتُه.
القصص تُعلم بدون خوف.
3. كلمة سر بينك وبين طفلك:
لو حسّ بخطر وما قدرش يشرح، يقول “كلمة السر” وتعرفي إن في مشكلة فورًا.
4. اللعب وتمثيل الأدوار:
نلعب تمثيل “موقف خطر”، والطفل يقول “لا”، ويهرب، ويشرح.
ده يدربه نفسيًا وعضويًا.
مثال تطبيقي:
أم تلعب مع ابنها لعبة “الموقف الخطر”، تمثل أنها شخص غريب وتحاول لمسه، فيرفض ويصرخ ويقول “لا تلمسني”، ثم يذهب ليبلغها. هذه الطريقة زرعت في الطفل مهارة رد الفعل الصحيح.
ثالثًا: لو حصل التحرش فعلًا، أعمل إيه؟
رد فعلك أهم من كل شيء:
امسكي نفسك:
لا تصرخي، لا تعنّفي، لا تتهمي الطفل.
قولي له: “أنا فخورة بيك إنك قلتلي، إنت مش غلطان”.
استمعي وافهمي:
“إيه اللي حصل؟”، “مين؟”، “فين؟”، “إمتى؟”
اكتبي كل حاجة فورًا، لتوثيقها.
الطبيب النفسي والطبيب العضوي:
حتى لو ما فيش أذى جسدي، الطفل محتاج متخصص يسمعه.
دي مش رفاهية، ده علاج للروح قبل ما تتكسر.
لا تتستري على المجرم مهما كان:
مشاعر الطفل وسلامته أهم من سمعة العيلة.
الطفل اللي يشوف أمه بتحميه بيكبر قوي وواثق.
مثال واقعي:
طفلة تم التحرش بها من مدرس في المدرسة. الأم أول ما عرفت، احتضنتها، وثبتت كلامها، وذهبت فورًا للمدرسة، ورفعت شكوى رسمية وتم اتخاذ إجراء قانوني. الطفلة دخلت جلسات علاج نفسي، واستعادت توازنها خلال شهور قليلة لأنها شافت أن أهلها بيدافعوا عنها.
رابعًا: المشاعر الجنسية أو العاطفية المبكرة — كيف نتعامل معاها؟
الطفل مش ملاك منزّه، هو كائن فضولي، جسده بينمو، بيشوف، بيسمع، وبيحس.
وأي مشاعر مبكرة مش معناها انحراف، لكن معناها: نداء لفهم، احتواء، وتوجيه.
1. لا تخوّف ولا تهوّن:
الطفل أو المراهق اللي يقول: “بحب بنت في الفصل”، مش محتاج ضرب أو سخرية.
محتاج حوار: “تحب يعني إيه؟ إيه اللي عجبك فيها؟ تفتكر إيه اللي المفروض تعمله؟”
2. اربط الشعور بالشرع:
قل له: “الإعجاب طبيعي، بس الفعل ليه وقته. ربنا بيقول: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى… مش بس الزنا، ده حتى القُرب منه”.
3. اشغل قلبه بحب الله وطاعة الهدف:
لما نحكي للولد عن يوسف – الشاب اللي قاوم، وفضل السجن على الخطأ – هنعلمه إن الرجولة مش في التجرّؤ، بل في الثبات.
4. ساعده يملأ يومه:
فراغ المشاعر بيجي من فراغ الوقت، وفراغ القرب من الأهل.
أنشطة رياضية، هوايات، مشاركة الأسرة، كلها حلول.
مثال حقيقي:
ولد عمره 11 سنة بدأ يقول إنه “بيحب بنت في اليوتيوب”، الأم ما صرختش، بل جلست معاه، وسألته: “تحب فيها إيه؟”، ثم وجّهته: “ربنا خلقنا نحس، بس لازم نضبط مشاعرنا زي ما نضبط أعصابنا”. وبدأت تشغله بهواياته، وشاركته قصص الصحابة والشباب، وبدأ يحس أنه فهم نفسه بدل ما يتهان.
خامسًا:
دور الأب في التربية الجنسية وحماية الطفل (الركن المنسي)
الأب مش بس مصدر مال، هو حائط الأمان النفسي.
1. وجودك = أمان:
لما الطفل يعرف إن له أب يسمعه، هيحكي، وهيخاف أقل.
الأب الحنون الواضح بيزرع ثقة: “بابا في ضهري”.
2. احكِ لابنك عن البلوغ، وأجسام الرجالة، والغضب، والشهوة، والبطولة:
الأب دوره مش بس تأديب، بل تعليم وتحفيز وقدوة.
3. لا تخجل من الكلمات الصريحة:
قول: “العضو الذكري”، “الاحتلام”، “ضبط النفس”، “غض البصر”.
كلما تكلمت بهدوء، شعر الولد أن الأمر طبيعي لا عيب فيه.
4. ادعم زوجتك بدل ما تسيبها وحدها في المعركة:
الأب اللي بيقول “كلمي مامتك” فقط، بيكسر جزء من حوار الصدق.
مثال رائع:
أب جلس مع ابنه البالغ من العمر 12 سنة، وقال له: “هقولك حاجات مهمة عن جسمك والبلوغ. كل حاجة ربنا خلقها جميلة، بس لازم نستخدمها صح”. الولد ارتاح، وبدأ يسأل، وانفتح الحديث، وأصبح الأب هو المرجع بدل الإنترنت.
سادسًا:
دور الأم في التربية الجنسية (القلب والمصدر الأول)
1. كوني أول مصدر للمعلومة:
ما تسيبي الطفل يعرف من طفل تاني أو فيديو.
اسأليه: “حد قالك حاجة غريبة؟ شفت حاجة ما فهمتهاش؟”
2. احتوي، لا تشتبهي:
حتى لو قال كلام صادم، اسمعي بتركيز، ووجهي بدون صدمة.
3. امسكي كل فرصة تعلمية يومية:
في الحمام: نتكلم عن الخصوصية.
في التليفزيون: نسأل “ده صح؟ ده حلال؟”
في المدرسة: نناقش اللي سمعه من صحابه.
4. اقرئي وتثقفي:
التربية الجنسية مش فطرة، دي علم، وبيكبر معاهم.
احضري ندوات، اقري كتب، اسألي المتخصصين.
مثال تطبيقي:
أم رأت بنتها في الصف الخامس بتقلد مشهد من مسلسل. ما عصبتش، بل قالت: “إنتي عارفة ليه ده غلط؟ ده المشهد بيخلي الولاد يتفرجوا عليك مش يحترموك”. وبدأت تشرح لها عن الجسد والخصوصية والكرامة، ففهمت البنت وتوقفت.
سابعًا: كيف نربّي جيلًا سويًا؟ (الوقاية خير من العلاج)
قرب روحي حقيقي:
علمهم يقولوا: “اللهم احفظني من الشيطان”، ويفهموا ليه.
اربط السلوك بالجنة والنار، لكن بدون ترهيب مبالغ فيه.
مراقبة من غير تجسس:
نعرف أصدقاءهم، نتابع محتواهم، نكون دايمًا “موجودين”.
الشفافية أهم من السيطرة.
حوار أسبوعي بلا توتر:
وقت ثابت، بدون توبيخ.
نسأل: “إيه اللي فرّحك؟ إيه اللي خوفك؟ شفت حاجة غريبة؟”
بيئة آمنة:
لما البيت يكون دافئ، والأهل ما بيصرخوش، الطفل هيرجع لهم دايمًا بدل ما يهرب للغريب.
ثامنًا: خطوات عملية يومية لكل أب وأم
1. جدول “الحماية الهادئة” الأسبوعي
2. الكلمات المفتاحية للطفل في كل سن:
3. عبارات تشجيعية تساعد الطفل على الحديث:
“أنا دايمًا هنا لو حسّيت بأي حاجة غريبة.”
“أنت مش غلطان لو حد ضايقك، الغلط على اللي عمل كده.”
“أكبر شجاعة إنك تحكي وتطلب المساعدة.”
تاسعًا: مراجع ونصوص شرعية داعمة للتربية الجنسية الوقائية
من القرآن الكريم:
“قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم…”
(النور: 30)
→ توجيه مباشر لحفظ الجوارح وتهذيب النفس.
“ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا”
(الإسراء: 32)
→ تحذير وقائي، يبدأ بـ”لا تقربوا”، قبل الوقوع في الفعل.
من السنة النبوية:
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك…”
→ تربية داخلية مبكرة على الرقابة الذاتية.
وقال أيضًا:
“علموا أولادكم الصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع.”
→ الحديث أصل واضح للتربية الجسدية، والعاطفية، والسلوكية
ختام ختامي: لنفكر بصوت عالٍ
هل تريد أن يعرف ابنك عن جسده منك أم من الإنترنت؟
هل تحب أن تكون ابنتك واعية قوية أم خائفة متخبطة؟
هل تصبر اليوم ساعة في الحوار… أم تبكي غدًا سنوات في الألم؟
أطفالنا أمانة عظيمة. ولو إحنا ما واجهناش الواقع ووعّيناهم، هيجي يوم نندم وقت ما يكون فات الأوان.
ما فيش عيب في التربية الجنسية، العيب إننا نسكت ونسيب أولادنا يكتشفوا وحدهم بطرق موجعة.
الدين الإسلامي ما حرّم الكلام عن الجسد أو المشاعر، بل نظّمه، ووجّه، وعلّم.
والقرآن علّمنا كيف نحفظ أنفسنا، والنبي علّمنا كيف نغرس الحياء والوعي في قلوب أولادنا من الصغر.
ابدأ النهاردة، احكي، اسمع، وثق إنك كأب وكأم، أهم خط دفاع لحماية أعز ما تملك: قلب طفلك
تعليقات
إرسال تعليق